الإخوة الأعداء
بقلم: فاطمة زيدان
باحثة دكتوراة في التاريخ والتراث
في مثل هذا الزمن، هل يولد الإنسان عدوا لأخيه؟!.. وهل نحتاج حقا إلى أعداء؟ أم أننا أتقنا دور العدو لأنفسنا؟!
عادة.. أنا لا أحب الأخبار التي توجع القلب، ولا أتابعها، أهرب منها كما يهرب القلب من المشاهد الثقيلة التي تثقل الروح وتوهن البدن. لكن هذا صباح، عندما وجدت كل الأخبار تتحدث عمّا يحدث في السودان، حاولت التجاهل كعادتي، كأنني أستطيع الهرب من الألم إن لم أقرأه. لكنني وجدتني أغرق في التفاصيل، وكل سطر يسحبني أكثر نحو الوجع. وبين تنهيدةٍ وأخرى، قلت في نفسي بنبرةٍ ساخرةٍ "نحن لا نحتاج عدوًّا إذًا... فقد كفانا ما نصنعه بأنفسنا" فالسودان لم يعد مجرد خبر في نشرة الصباح، بل صار مرآة لوجعنا الإنساني كلنا.
منذ فجر الإنسانية، حين رفع قابيل يده على هابيل، وسُفك أول دم على الأرض باسم الغيرة والأنانية، لا باسم العدل ، كانت تلك اللحظة شرارة البداية لخطايا البشر لن تنتهي حتى قيام الساعة، حين غابت الرحمة عن القلب، وارتدى الأخ وجه العدو. ومنذ ذلك اليوم، ما زال المشهد يتكرر بأسماء مختلفة ووجوه جديدة، لكن الجريمة واحدة: يقتل الأخ أخاه، ويبررها كل بما يراه حقا. وفي السودان اليوم، كأن التاريخ يعيد صرخته الأولى: لا صوت يعلو فوق صوت الدم، ولا ذنب للضحايا إلا أنهم وُلدوا بين صراع الإخوة.
وهنا، يقف القلب متسائلًا في وجعٍ لا يهدأ: هل أصبح الأخ قاتلًا لأخيه من جديد؟
كيف نستنكر ما يفعله اليهود في غزة، ونحن نرى في السودان إخوة يرفعون السلاح في وجه بعضهم البعض؟ أي منطق هذا الذي يجعل الغريب أرحم من القريب!
أليس القاتل والقتيل من ترابٍ واحد، وأحلامٍ واحدة، وأم واحدة تُدعى الوطن؟
إنها المأساة حين يتحول الإخوة إلى أعداء، ويغدو الوطن ساحةً للصراع بدل أن يكون حضنًا للأمن والأمان.
ولكنني تراجعت خطوة للخلف وقلت: لم تعد المأساة حكرًا على ساحات الحرب فقط أيتها الأديبة الصغيرة، فكم من بيتٍ شهد حربًا صامتة لا يسمعها أحد. إخوة يجلسون على مائدةٍ واحدة، لكن بينهم جدار من الكراهية والطمع. ميراث يقسم الدم قبل أن يقسم الأرض، وكلمة حاقدة تشعل نارًا كانت خامدة، كم من أخٍ قتل أخاه خفيةً في قلبه قبل أن تمتد يده إليه! وكأن قابيل لم يمت، بل ما زال يتكاثر فينا بأشكالٍ مختلفة: في الطمع، في الحسد، في الأنانية، في الغيرة التي تفسد المودة وتحول العائلة إلى ساحة خصامٍ لا تنتهي.
وحين يمتد هذا الحقد من حدود البيت إلى حدود الوطن، تتسع الدائرة، لكن الجريمة تبقى هي نفسها. ما الفرق بين من يقتل أخاه طمعًا في إرثٍ ضئيل، ومن يقتل وطنه كله طمعًا في سلطةٍ زائلة؟! كلاهما غاب عنه ضوء الرحمة، وانطفأ في قلبه صوت الضمير. حين يعتاد الإنسان أن يرى الدم وسيلةً للنجاة أو للتفوق، يتحول الوطن كله إلى ميراث يتنازعه الأقوياء، ويُدفن فيه الضعفاء تحته بصمت. وهكذا نتحول دون أن ندري إلى صورة جديدة من قابيل، نحمل سلاحًا أو كلمة، لكن النتيجة واحدة: نحن لا نحتاج عدوًا... نحن أعداء.
إن ما يحدث اليوم في السودان يشبه مشهدًا من عصور الظلام، كأن البلاد عادت إلى زمن محاكم التفتيش، لكن بثوبٍ جديد. كل مدينة تحاكم، وكل قرية تدان، وكل إنسان يُسأل عن ولائه قبل أن يُسأل عن جوعه أو ألمه. تُراق الدماء في الشوارع، وتفتش البيوت، ويُعاقَب الأبرياء لمجرد أنهم في الجهة الخطأ من الوطن كما يزعمون. لا أحد في مأمن؛ فالقانون غاب، وكأن القانون الذي يضعه البشر يلغي الرحمة التي ولدنا بها.
ولكن وبالرغم من كل هذا السواد، يبقى هناك ضوء خافت لا ينطفئ، يسكن في القلوب الذين لم يلوثهم الدم ولا الكراهية. ربما لا نستطيع أن نغيّر وجه الحرب اليوم، وللا ما يحدث من قتل وتدمير وابادة وسفك دماء، لكننا نستطيع أن نغير أنفسنا. فحين ندرك أن عدونا الحقيقي هو الغل والحقد والجهل، سنفهم أن الانتصار لا يكون بالسلاح، بل بالرحمة وإحياء ما مات من الإنسانية ، فلتتوقف الدماء عن النزف، وليتعافى الوطن، لأننا حين نعود بشرًا… لن نحتاج عدوا بعد الآن.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، وهي آية عظيمة تحمل في طياتها سر بقاء الأمة وقوتها، الوحدة هي السور الحامي، والانقسام هو الثغرة التي ينفذ منها الأعداء.
إن تدمير الشعوب يبدأ من الداخل؛ ما دام الداخل مفككاً وهشاً، يصبح هدمه سهلاً على أي قوة كانت أو حتى على أنفسنا بأيدينا. وما يحدث اليوم في السودان ليس بعيداً عن هذا المشهد؛ فقد تفككت العصا وتنازعت الأيدي فضاع الحبل الذي كان يجمعهم. لم يعد العدو في الخارج أقوى من الذي يسكن الداخل، عدو يفتك بالأرض والقلوب معاً. ولو أدرك الجميع أن الاتحاد حياة، وأن التناحر موت بطيء، لكان الطريق إلى النجاة أقصر وأقل وجعاً. وبهذا يتضح أن وحدة الصف والاعتصام بحبل الله ليست مجرد واجب ديني، بل ضرورة استراتيجية تحمي الأرض والعرض وتجعل الأمة قادرة على مواجهة أي تحدي.
إرسال تعليق